لتلاشي الحدود بين المجتمعات والثقافات المقترنة بالتطور المتسارع في وسائل الاتصال والتكنولوجيا، يبرز دور التغيير في أولويات التخطيط للمستقبل التعليمي والأكاديمي لأبنائنا في العالم العربي الذي يظهر جلياً في سعي الآباء لتعليم أبنائهم منذ الصغر أكثر من لغة إعداداً لهم لمستقبل قد لا يكون فيه مكان لمن لا يتحدث لغة أخرى إضافية إلى جانب لغته الأم. واستناداً لانتشار المدارس الدولية العالمية في عالمنا العربي، فقد اعتمدت معظم الدول العربية اللغة الإنجليزية لغةً أساسية. ليس ذلك فحسب، بل يأتي الإنترنت بطغيانه الكاسح وتطبيقاته المتنوعة ليفرض الاحتياج إلى وجود قدر من اللغة الإنجليزية كبطاقة الصعود للطائرة التي تمكن حاملها من التحليق في عالم من التطبيقات والألعاب وغيرها!
ورغم أهمية تنوع مصادر المعرفة، فإنه لم تؤخذ بعين الاعتبار، مقدرة هذا الجيل على الاحتفاظ بثقافته ولغته اللتين تمثلان الهوية له في ظل هذه التحديات العظيمة.
وهنا يبرز العديد من التساؤلات، ومنها: ماذا يحدث عندما يتعرض الطفل لأكثر من لغة؟ هل يؤدي ذلك إلى ارتباكه وتأخره؟ هل من الممكن أن يواجه صعوبة أكثر في تعلم الكلام من الأطفال الذين يتحدثون لغة واحدة فقط؟ هل استخدام أكثر من لغة مع طفل يعاني من صعوبات في التواصل يساهم في زيادة مشكلته؟ هل من الممكن أن يصبح ثنائي اللغة طفلاً ذا احتياج خاص؟ في هذا المقال، سوف نجيب عن كل هذه التساؤلات.
ثنائية اللغة
التقت «صحتك» الدكتور وائل عبد الخالق الدكروري، رئيس قسم اضطرابات التواصل في «مجمع عيادات العناية النفسية» بالرياض، وهو أكاديمي وباحث ومستشار لعدد من الهيئات والأستاذ المشارك بكلية الطب بجامعة الفيصل بالرياض - لتسليط الضوء على الموضوع، من الوجهة الصحية، بإيجابياته وسلبياته، فعرّف «الشخص ثنائي اللغة» بأنه الشخص الذي يتحدث لغتين، أما الذي يتحدث أكثر من لغتين فهو الشخص «متعدد اللغات» (على الرغم من إمكانية استخدام مصطلح «ثنائي اللغة» في كلتا الحالتين). لقد بات تعددُ اللغات معياراً لمستوى التعليم والثقافة في معظم مجتمعات العالم، ويمكن للشخص معرفة واستخدام ثلاث أو أربع لغات أو حتى أكثر بطلاقة. قد يصبح الشخص ثنائي اللغة إما عن طريق اكتساب لغتين في الوقت نفسه في مرحلة الطفولة أو عن طريق تعلم لغة ثانية في وقت ما بعد اكتساب لغته الأولى. وأشار الدكتور وائل الدكتروري إلى المؤتمر الدولي الثالث للجمعية السعودية لأمراض السمع والتخاطب الذي سيبدأ أعماله يوم غد (السبت)، الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2022 في مدينة الرياض ولمدة يومين، وسيتناول العديد من الموضوعات المهمة والمستجدات في الممارسة الإكلينيكية فيما يتعلق بعلاج أمراض النطق واللغة والسمعيات، ومنها «ثنائية اللغة عند الأطفال: ما بين البراهين والممارسة»، وهي محاضرة سيلقيها الدكتور وائل الدكروري، والذي خص هذا العدد من «صحتك» بـ«الشرق الأوسط» بتصريحه، أن العديد من الأطفال ثنائيي اللغة يكبرون وهم يتحدثون لغتين بكفاءة، ويمكن للبعض تعلم اللغة الثانية في وقت ما بعد الطفولة المبكرة، ولكن كلما تقدم السن، كان من الصعب تعلم التحدث بلغة جديدة بكفاءة المتحدث الأصلي. ويعتقد العديد من اللغويين، أن هناك «فترة حرجة» تستمر تقريباً من الولادة حتى سن السابعة يمكن للطفل خلالها، بسهولة، اكتساب أي لغة يتعرض لها بانتظام. تحت هذا الرأي، يتغير هيكل الدماغ عند البلوغ، وبعد ذلك يصبح من الصعب تعلم لغة جديدة. هذا يعني أنه من الأسهل بكثير تعلم لغة ثانية خلال مرحلة الطفولة مقارنة بالشخص البالغ.
> هل من الصعب على الطفل اكتساب لغتين في وقت واحد؟
أوضح الدكتور الدكروري، أنه لا يوجد دليل يشير إلى صعوبة اكتساب الطفل لغتين أكثر من اكتسابه لغة واحدة، طالما أن الأهل والأشخاص المحيطين يتحدثون بانتظام مع الطفل باللغتين مما يساعده على اكتسابهما بسهولة. ولا يجب أن يكون الطفل استثنائياً أو لديه أي قدرة لغوية خاصة ليصبح ثنائي اللغة؛ طالما أن الطفل يتعرض للغتين طوال مرحلة الطفولة المبكرة.
قد يشعر بعض الناس بالقلق من أن تعلم أكثر من لغة واحدة أمر سيئ للطفل، ولكن لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة. وفي الواقع، هناك الكثير من المزايا لمعرفة أكثر من لغة واحدة، حيث يشعر العديد من اللغويين أن معرفة لغة ثانية تفيد في تطور النمو المعرفي والإدراكي للطفل، حيث أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين يتحدثون لغتين، تكون اللغتان في صراع كما لو كانت كل منهما تحاول إقناع الطفل باختيارها عند الاستجابة لمثير لغوي، وهو ما يتطلب قدرة على تنحية لغة وإعلاء الأخرى؛ ما يستلزم تفعيل الانتباه الاختياري والمرونة الإدراكية؛ حيث توصلت دراسة حديثة إلى أن هذه المهارات تكون أفضل عند الأطفال الذين يتحدثون لغتين، وهو ما يظهر بشكل واضح عند بداية الدراسة الأكاديمية؛ حيث يُظهر الأطفال الذين يتحدثون لغتين تقدماً في المجال الإدراكي، يتمثل في تطورٍ أعلى لمهارات السيطرة على الذات، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على مستقبلهم الأكاديمي وتطور المهارات الاجتماعية لديهم، فالطفل الذي لديه مهارات متقدمة في السيطرة على الذات يكون من السهل عليه تركيز انتباهه على النقاط المهمة، وأقل تفاعلاً مع المشتتات المختلفة، مما يكون له تأثير إيجابي على التطور الأكاديمي. أما بالنسبة للتفاعل الاجتماعي فيكون لديه سيطرة أكبر على سلوكياته وتفاعلاته.
إن استخدام أكثر من لغة مع الطفل لا يسبب تأخراً في حد ذاته، في حين أن الأطفال الذين يتعرضون لأكثر من لغة قد تكون بداية الكلام عندهم أبطأ قليلاً من الأطفال الذين يتعرضون للغة واحدة، ولكن يظلون ضمن الحدود الطبيعية، بل لقد أظهرت الدراسات، أنه حتى الأطفال الذين يعانون من تأخر في نمو مهارات اللغة والكلام يمكنهم الاستفادة من تعلم أكثر من نظام لغوي.
> هل يمكن تقديم لغة ثانية للطفل الذي أظهر تأخراً في اكتساب لغته الأم؟
يجيب الدكتور وائل الدكروري بأن هناك ما يعرف بـ«اكتساب اللغات المتسلسل»، أي اكتساب الطفل اللغة الثانية بعد اكتساب اللغة الأولى؛ حيث يتم تقديم اللغة الثانية بعد عمر ثلاث سنوات من اكتسابه مهارات اللغة الأولى. لقد خلصت نتائج الدراسات، التي أجريت في العقد الأخير إلى عدم وجود اختلافات بين هؤلاء الأطفال والآخرين أحاديي اللغة، الذين يتفقون في وجود صعوبات في تطور ونمو مهارات اللغة والكلام؛ حيث توافقوا في سرعة اكتساب المهارات اللغوية وكمية اكتسابها، في حين يجب توضيح أن البيئة التي يعيش فيها الطفل لها تأثير كبير من حيث كون اللغة لغة أقلية أو لغة أغلبية في المجتمع.
تجارب لغوية
وهنا يورد الدكتور وائل تجارب بعض الدول ولغاتهم:
> التجربة التركية. تشير نتائج الدراسات المطولة التي أجريت على الجاليات التركية المقيمة بألمانيا؛ إلى أن الأطفال الأتراك الذين يعانون من تأخر نمو مهارات اللغة والكلام وتم البدء بتعليمهم اللغة الألمانية كلغة ثانية بعد بلوغ سن الثالثة، ظلوا متأخرين مقارنة بأقرانهم متحدثي اللغة الألمانية أحاديي اللغة حتى بعد 4 سنوات من التعليم والتدريب المكثف، كما ظل مستوى أدائهم أقل من المعدلات الطبيعية لمتحدثي اللغة التركية أحاديي اللغة.
> التجربة الأميركية. أفاد الدكتور وائل الدكروري، بأن من المثير للدهشة أن الولايات المتحدة الأميركية تختلف تماماً بين دول العالم من حيث إن العديد من مواطنيها يتحدثون الإنجليزية فقط، ونادراً ما يتم تشجيعهم على التحدث بطلاقة بأي لغة أخرى!
ويعتقد اللغويون في أميركا بأن اللغة الإنجليزية ليست في خطر الاختفاء في أي وقت قريب؛ فهي راسخة في كل من أميركا والبلدان الناطقة بالإنجليزية كلغة أم في جميع أنحاء العالم.
في الواقع، لم تحتل أي لغة مكانة قوية في العالم مثل اللغة الإنجليزية، اليوم. ولكن البعض يشعر بالقلق عندما يرون اللوحات الإعلانية في الشوارع داخل الولايات المتحدة باللغة الإسبانية. ولكن، من المنطقي تماماً طباعة المعلومات العامة والتعليمات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في حي به عدد كبير من السكان الناطقين بالإسبانية. هذا لا يعني أن اللغة الإنجليزية في خطر.
باختصار، ثنائية اللغة ليست خطراً على اللغة الإنجليزية أو على المتحدثين ثنائيي اللغة أنفسهم. على العكس من ذلك، هناك العديد من المزايا لثنائية اللغة، لكل من الفرد والمجتمع ككل.
> ثنائية اللغة واضطرابات طيف التوحد. أوضح الدكتور الدكروري، أن هناك دراسات أجريت بهدف مقارنة تطور نمو مهارات اللغة عند من اكتسبوا اللغات بشكل متزامن أو متسلسل، أو أحاديي اللغة، شريطة أن يكونوا تحت مسمّى «اضطرابات طيف التوحد»، لم تُظهر فروقاً مميزة لأي فئة من فئات هذه الدراسات، وهو ما يثبت عدم اختلاف ثنائية اللغة بأنواعها مقارنة بأحادية اللغة عند الحديث عن اكتساب مهارة لغة ثانية. لقد أظهرت نتائج البحوث التي أجريت أن الأطفال المتأخرين لغوياً يمكن أن يكتسبوا لغة ثانية بعد اكتساب اللغة الأولى، شريطة أن يتم التعامل مع اللغتين بشكل دائم في البيئة المنزلية أو بيئة المدرسة.
وهنا يمكننا استنتاج أن الأطفال الذين يكتسبون لغة ثانية وهم يعانون من تأخر في نمو وتطور اللغة الأم، لا يواجهون مصاعب أكثر من الأطفال أحاديي اللغة، الذين يعانون من التأخر نفسه في نمو مهارات اللغة.
> هل من الضرورة أن يتم توجيه الأطفال المتأخرين لنظام تعليم أحادي اللغة فقط؟ يجيب الدكتور وائل الدكروري بأن الإجابة هنا تتمثل في أن نتائج الأبحاث التي أجريت حتى عام 2014 خلصت إلى أن الأطفال المتأخرين لغوياً يؤدون الأعمال بشكل مماثل في البيئة التعليمية ثنائية اللغة كما في البيئة أحادية اللغة. فالتعلم سواء كان بلغة واحدة أو لغتين بالنسبة للأطفال المتأخرين لغوياً يتساوى مع وجوب وجود الدعم المتمثل في علاج أمراض النطق واللغة؛ لمساعدة الطفل على اجتياز المصاعب التي يواجهها؛ فالمعيار بالنسبة لهؤلاء الأطفال ليس وجود لغة أو لغتين، بل وجود الدعم الكافي بالجلسات العلاجية.
وفي النهاية نقول، إن الأطفال ثنائيي اللغة، الذين يعانون من تأخر في نمو مهارات اللغة والكلام، يحتاجون إلى دعم كامل للغتين؛ لضمان اكتسابهما بشكل متوافق مع أعمارهم. أما الاعتقاد الخاطئ بأن ثنائية اللغة مسؤولة عن تأخر الأطفال أو تحد من إمكانية تطورهم على المستوى اللغوي، فيجب عدم إعطائه أي اهتمام؛ لأنه يتنافى مع نتائج الدراسات التي أجريت في العشرين سنة الماضية.
مشكلات الطفل العربي
هل للطفل العربي ثنائي اللغة من مشكلات محددة؟ يجيب الدكتور وائل الدكروري بأن ما يحدث عندما يكتشف الأهل أن طفلهم يعاني من تأخر في تطور ونمو مهارات اللغة والكلام وهم في مجتمع يتحدث لغة أخرى (مثال: طفل عربي في مجتمع أميركي)، هو أن يعتقد الأهل أن تعلم لغة المجتمع (لغة الأغلبية) أكثر أهمية، بل إن اللغة الأصلية (العربية) قد تكون غير مهمة الآن حتى لو كان الأهل لا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة كما في بعض الأحيان. وهنا تظهر مشكلات كثيرة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الأطفال الذين يتحدثون لغة الأغلبية عُرضة لعدم اكتمال لغتهم الأصلية أو حتى فقدها.
- في حال عدم طلاقة الأهل في استخدام لغة الأغلبية، وإصرارهم على استخدامها لمساعدة طفلهم، قد يتأثر نمط العلاقة بين الطفل والأهل من حيث التفاعل؛ مما يلقي بظلاله على العلاقة العاطفية والنواحي النفسية؛ حيث إن اللغة مرتبطة بهما بشكل كبير، كما أنها ترتبط بمفهوم تحديد مرجعية الهوية الثقافية للطفل.
- تأثر علاقة الطفل بثقافته وأصوله بشكل سلبي.
- وهنا يمكننا استنتاج أن على الأهل أن يتواصلوا مع أطفالهم بلغتهم الأصلية، كذلك المتخصصون يجب أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم لتقديم المساعدة التي تدعم تطوير مهارات اللغة الأم عند الطفل. ولقد خلصت الدراسات إلى ضرورة أن يكون الهدف الأساسي للتدخل العلاجي لعلاج النطق واللغة هو مساعدة الطفل المتأخر لغوياً على تطوير لغته الأم في الوقت نفسه الذي يتلقى فيه علاجاً بلغة الأغلبية في المجتمع الذي يعيش فيه.