الأطفال مثل الكبار يغضبون، ويعترضون، ويصرخون، ولكن خبرتهم في التعرف على مشاعرهم وكيفية التعامل معها تكون ضعيفة، لم تتشكّل ولم تُصقل بعد، بل ورُبما يجهلون أن ما يشعرون به هو "غضب"، ويجهلون أيضا ما الذي يستحق الغضب لأجله، وما الذي يُغضبهم بالأساس. على الجانب الآخر، وفي الكثير من الأحيان، لا يتعامل الأهل مع غضب الطفل بطريقة صحيحة، مما يُضاعف المشكلة. مثلا، الكثير منا يعرف "كيفن"، الطفل الغاضب ذو السنوات الثمانية في فيلم "وحيد في المنزل" (Home Alone)، المعترض على كل ما يحدث في المنزل. لم تُساعده أمه في تجهيز حقيبة السفر، لا يُريد ابن عمه المبيت معه في الغرفة، ولم يحصل على قطعة البيتزا التي طلبها. غاضب وحانق، وكل مَن في المنزل مُستاؤون منه ومن تصرفاته. "كيفن" يرى أن غضبه مُبرَّر، بل ويدفعه بركان غضبه إلى التمني أن يعيش أياما خالية من العائلة. ما صُوِّر أمام هذه الكاميرا يُحاكي واقعا موجودا.
هذا بالطبع يقع على عاتق الأهل، وفي بعض الأحيان قد يرتكبون أخطاء تزيد من تأزّم وعي الطفل بمشاعره وكيفية التعامل معها، فأغلب ما يتشرّبه الطفل في صغره يبقى عالقا، بصورة أو بأخرى، معه حتى كبره. وفهم المشاعر والتكيف معها يُعتبر لبنة الأساس في تأسيس الذكاء الاجتماعي الذي سيلعب دورا مهما في حياة الطفل الاجتماعية وعلاقاته مع الغير، إذ تلعب الوراثة دورا في الذكاء، ولكن الذكاء الاجتماعي قابل للتعليم، ويحتمل الخطأ والصواب (1). فما الأخطاء التي يرتكبها الأهل في التعامل مع نوبات الغضب الجديدة كليا على الطفل وخبرته، وكيف يُمكن تعليم الطفل فهم هذه المشاعر والتحكم بها؟
في كتابها "حلول التربية الوالدية"، تُقدِّم الخبيرة ميشيل بوربا مجموعة من النصائح التي تُساعد الأهالي في التعامل مع سلوكيات الأطفال الصعبة، من بينها الغضب، وكيفية التعامل مع الطفل الغاضب. تُوضِّح أنه من خلال مسيرتها الطويلة بالعمل كمستشارة تعليمية في المدارس، فإنها ترى توجُّها متزايدا في مسائل العنف والغضب، وترى أن النشرات الإخبارية، والعنف الذي تُذاع صوره في كل الوسائط، ألعاب الفيديو، الإنترنت، الأفلام، وحتى كلمات الأغاني، جميعها تُنتج أطفالا يرون الغضب والعُنف هو الطريقة الوحيدة لحل المشكلات. ولكنها تُبشِّر قُرَّاءها أنه بجانب كل خبر سيئ هناك -بالضرورة- خبر جيد، فتقول إن العُنف يُكتسب، وهذا يعني أن الهدوء مُكتسب أيضا، كلاهما قابلان للتعلُّم من خلال الالتزام ببعض التقنيات والخطوات، وهي كفيلة بمنع تطور السلوك العدواني الذي يُرهق الطفل أساسا. (2)
من جانبه، يخبر د. الزيود "ميدان" أن الحرمان الوالدي، وكثرة الوعود غير الموفى بها، والمقارنة السلبية، والشجار المستمر بين الوالدين، جميعها أسباب تجعل من الغضب ضيفا ملازما للبيئة التي يعيش فيها الطفل، ويُصبح أمرا اعتياديا "غير مُنتقد" في نظر الطفل. مع تأكيده أن الحرمان قد يكون بأحد شقَّيْ المُعادلة، النفسي والمادي، فالطفل يتعامل مع المحسوسات بشكل لافت للانتباه، وسيؤثر عليه أن يكون مُشبعا عاطفيا ومحروما ماديا، أو العكس، فمن الضروري الموازنة والتعزيز بتساوٍ معقول بين جانبَيْ هذه المعادلة. وبما يخص المقارنة السلبية بين الإخوة أو الأقارب، يؤكد الدكتور الزيود أنها أمور ستجعل الحقد والغضب والكبت أمورا موجودة بشكل مستمر، لأن الطرف المقارن به موجود بشكل مستمر في بيئة الطفل، ويشمل هذا الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عشر سنوات، فوصول مولود جديد، طفل جديد، أخ جديد، هو أمر يؤجج الغضب وسيسلب منه الاهتمام الذي كان يُصب فوقه دون مشاطرة، ويصفها الدكتور الزيود "المنافسة التي لم تكن بالحُسبان".
الغضب، الانفعال، السخط، الكبت، ومجموعة مرادفات أخرى نستطيع أن نستمر في ذكرها وكتابتها، وقائمة أخرى من التصورات والأوصاف التي اعتدنا سماعها مثل "يغلي دمه" أو "عندما يغضب يُصاب بالعمى". هذا بالفعل يُشبه ما يتعرّض له الأطفال من مشاعر يجهلون أنها "تغلي دمهم" أو تُهيّجهم، ووظيفة الأهل هُنا أن يرسموا خطوطا عريضة تُحدِّد للطفل الملامح الجديدة عليه التي يضطر أن يفهمها ويتعامل معها. في حديثه مع "ميدان" يؤكد الدكتور الزيود أهمية الاتفاق على أن التنسيق بين كلمتَيْ الأم والأب، وهي أهم خطوة في هذه العملية، فيرى أن التنسيق "مدار رحى العمل" والتي يرى الطفل من خلاله أن الوالدين لا يتناقضان في التعامل معه، فالحرمان متفق عليه من كليهما، والعطاء كذلك. ويُشير إلى أن الخطأ رقم واحد هو التناقض، أن يكون الأب متساهلا في موقف ما والأم العكس، أو التذبذب في القرارات الصادرة في حق الطفل، هذا كفيل بأن يجعل بيئة الطفل بطابع غير واضح القوانين وهُلامي، وانطلاقا من هذه الملاحظة قدّم الدكتور الزيود مجموعة من النقاط التي تُساعد الطفل على تمييز مشاعره وفهمها:
* توضيح سبب منع أو منح الطفل التعزيز المتفق عليه.
* التحدث مع الطفل بشكل مباشر وبكلمات واضحة وذات رسالة تحمل فكرة واحدة للطفل.
* إن كان يُحسن الكلام، يُفضَّل أن يُطلب منه إعادة ما فهمه من والديه، فهذا يُسهِّل فهم شخصيته والتعامل معه.
* عدم التراجع عن الاتفاق معه، إلا إذا اتفقا مع بعضهما على هذا التراجع، مع ضرورة توضيح هدف التراجع للابن.
* السعي الدؤوب لعدم التراجع عن القرارات بسبب صراخ الطفل أو غضبه، وإلا سيتعلّم أنه كلما أراد شيئا فالسبيل هو الصراخ.
* مكافأة الطفل كلما أبدى التزاما، مع توضيح سبب المكافأة أو التعزيز.
* في حال وجود أي خلاف بين الوالدين، من الضروري توضيح هذا للطفل مع التأكيد أنه لا علاقة له بالأمر وعدم جرّه ليكون مادة في خلافهم.
في نهاية حديثه مع "ميدان" يجيب الدكتور خليل الزيود عن الاستفسار الذي ربما هو النصيحة المتوارثة الأشهر التي تقول: في حال بكى الطفل أو غضب "اتركوه"، فهل هذه نصيحة مجدية؟ يقول إنه إذا كان سبب الغضب معروفا ومفهوما فيُمكن أن يُترك الطفل للتعبير عن غضبه، ولكن دون تجاهل. فبمجرد أن يهدأ، يجب أن يُناقَش وأن يفهم أن تصرفه خاطئ، بشرط ألّا يكون سبب الغضب الأهل وتأخرهم مثلا عن حاجة بيولوجية للطفل، فهُنا لا يُمكن في أي حال من الأحوال أن يكون هذا خطأ الطفل. وينصح الدكتور الزيود بفهم ما يزعج الطفل أو يوتره، ومحاولة نزع كل ما يُمكن أن يتسبّب في ذلك، وفي حال أبدى الطفل غضبا أمام الناس، فمن واجب الأهل هُنا أن يؤكدوا للمحيطين عدم التعامل مع الطفل أثناء نوبة غضبه، وأنهم -أهله- أكفأ في التعامل معه، ولا مانع من استشارة مختص ليعطيهم إجابات علمية شافية.
تتساءل كيم كونستيبل عبر منصة "تيد" فتقول: "عصيان الأطفال، خطأ مَن؟"، وتُشارك أحداثا من واقع حياتها، فتسرد قصتها قائلة إنها في يوم من أيام الأمومة العادية، بينما تُحضِّر وجبة الغداء، لمحت الساعة لتكتشف أنها متأخرة على موعد ما. كان طفلاها آنذاك مندمجين بمشاهدة برنامجهم المفضل على شاشة التلفاز، فهرعت للملمة حاجياتها وإعلان انتهاء وقت التلفاز موجهة أوامر "شبه عسكرية" لأطفالها مطالبة إياهم بالتوجه للسيارة بأسرع وقت ممكن. طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات رفض أن يُغادر مكانه، غاضبا مطالبا باستكمال مشاهدة برنامجه، ولكنه ليس القبطان هنا، لا مجال للرأي الآخر، فحملته ودفعته لداخل سيارتها، وبدأت بالقيادة بينما يصرخ، تطلب منه بهدوء أن يصمت ولكنه يصرخ، تصرخ هي الأخرى ولكنه لا يهدأ ويستكمل نوبة الصراخ التي أفقدتها أعصابها، فركنت سيارتها على جانب الطريق، وترجّلت متوجِّهة للباب الخلفي مواجهة طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات وقالت بصراخ شديد: "إما أن تصمت، وإما أن أتركك هنا في الشارع وأمضي".
حسنا، من الطبيعي أن يختار الطفل أن يصمت، مرغما، ولكنها تقول إن طفلها يبلغ من العمر الآن إحدى عشرة سنة، وأكثر ما يُهدِّده أو يؤجج مشاعر الغضب هو أن يرى ملامح شخص على استعداد أن "يصرخ في وجهه"، كرفع حاجب مثلا، وهذا بدوره منعه من التفاعل، والمشاركة، والتجربة. وتقول إن صغير الفيل تُقيَّد قدمه كي لا يتحرك أو يهرب، وكل محاولة منه تتسبّب في جروح مؤلمة، مع الوقت يفهم صغير الفيل أن هجر المحاولة هو ما يُخفِّف الألم. يكبر الفيل، ويصبح بجسد ضخم، ومع ذلك ما إن يُقيَّد بقيد يُكسر بسهولة فإنه لا يُحاول من الأساس، قُتِل أي طيف للمحاولة. وهذا ما يحدث لأطفالنا إن تمادينا في الغضب منهم، بعض الأمور التي تُغضب الأهل لا تكون من مسؤولية الطفل أساسا، التأخر على موعد، مشاجرة مع صديقة، احتراق الكيك، حادث السيارة، وغيرها من الأمور الحياتية. الطفل هو المكان الأكثر خطأ لتفريغ غضبك.